القائمة الرئيسية

الصفحات

ام الدويس....قصة تستحق المشاهدة والتحليق في كلماتها

 

أم الدويس


أكاد أختفي وسط كل تلك الأبراج الشاهقة، وسط تلك الأضواء الساطعة والضوضاء العالية، وما زاد سطوة هذا الشعور هو شعور أخر بغيض، شعور يكاد يفتت بقلبك ويتركه لطيما لا يقدر سوى على ضخ المزيد من الدماء فقط، فلا أنت قادرا على التذمر ولا حتى على وأد هذا الشعور، انه شعور الغربة في بلد غير بلدك لأجل أن تحظى بفرصة عمل جيدة، هكذا وجدنا الحياة وهكذا رسمت لنا الطريق..


جلست يومها في شرفة الغرفة التي أسكن بها أراقب تلك الشوارع الغريبة عن عيناي، تلك الشوارع النظيفة بطريقة مبالغ فيها، حتى انها تجعلك تنفر منها بشدة، فالسيارات تركض في سباق متواصل، الوجوه تختلف من كل الجنسيات تقريبا، الحياة المادية تطغو على كل شيء تقريبا، فلو بكيت يوما على قارعة الطريق فلن تجد من يشفق حتى عليك، اللهم إلا من سيارة شرطة قد تأخذك لتحقق معك لأنك تسيء للمظهر العام الى البلد..


أمسكت بكوب من الشاي وجلست أستمتع به محاولا الغرق في ذكريات الماضي، الماضي المحمل برائحة أعواد الذرة ورسائل خطيبتي، المحمل بصوت أبي وصياح أختي الصغيرة في البيت..


و..

أخرجني من حالتي تلك رنين الهاتف الذي جعلني أشعر بحالة كبيرة من النفور، ربما يكون صاحب العمل وسيطلب مني النزول للعمل، أقسمت في نفسي أن أرفض مهما كان، أنا لم أحصل على يوم واحد منذ ثلاثين يوما تقريبا، أمسكت الهاتف في غضب ولكني فوجئت، لم يكن صاحب العمل..

لقد كان صديقا من بلدي يعمل في مكان قريب من مكاني..


- مرحبا

- ..........

- اشتقت اليك يا رفيقي

- .........

- نعم وأنا أيضا في يوم اجازة

- ........

- نتقابل ؟؟

- .......

- حسنا أعتقد أن هذا أفضل سأكون بالموعد


أغلقت الهاتف وهناك شعور غريب يجتاح كياني، شعور بالألفة والمحبة، شعور لم أشعر به منذ حادثني صديق لي منذ ثلاثة أعوام لنجلس على المقهى، فمنذ سفري الى هنا لم يدعوني أحدا لنخرج في نزهة سوى الأن..


ارتديت ملابسي سريعا وهبطت من المبنى المتواضع والذي يختبئ عن الشوارع الرئيسية حتى لا يخدش عين الأجانب..

ركبت الحافلة وانطلقت ناحية نقطة اللقاء، كان المفترض أن نتقابل بعد ساعة لذا نزلت على الفور حتى لا اتأخر، ولكن لم تمر ثلث ساعة وكنت في المكان، هبطت من الحافلة التي تعجب سائقها من نزولي في هذا المكان ولكنه لم يعقب..


نزلت على الطريق اتأمل ما حولي في رهبة شديدة، المكان مظلم مخيف والصحراء من خلفي على مد البصر، نظرت في ساعتي فوجدت انني قد وصلت باكرا، اتصلت بصديقي وتعجبت من نقطة اللقاء تلك فأخبرني أن هناك صديق له من تلك البلد سيقيم حفل شواء في الصحراء وانه سيحضر ليأخذني من تلك النقطة بسيارته ذات الدفع الرباعي لاختراق الصحراء..


تذمرت بداخلي وقررت الانتظار الذي لا أملك سواه..

الطريق مظلم تمر السيارات عليه على فترات متباعدة، لا توجد أعمدة انارة وانما هي أجزاء معدنية براقة تضئ الطريق للسيارات حينما تسلط مصابيحها عليها، غير ذلك فتلك الأجزاء مظلمة..


لفحتني نسمة هواء باردة جعلت جسدي ينزوي على نفسه من الخوف والبرد، تأملت الصحراء على مد البصر فلم يزيدني هذا سوى خوفا على خوف، وبردا على برد..

دقائق من الانتظار تمر كساعات وساعات، صوت الرياح يثير بداخلي ألف ألف تساؤل.. 


أخرجت هاتفي وكتبت رسالة الى خطيبتي أقول فيها

" إلى ملكة السماء وهذا الكوكب الدري الذي لا يبارح سمائي, لا تتركيني الليلة فأنا أحتاج الى نورك, أحتاج لرائحة عبقك التي تملأ من حولي الدنيا عبيرا و 

توقفت عن الكتابة حينما وصلت الى أنفي رائحة عبير كاد أن يفقدني اتزاني، مزيج من رائحة الطبيعة الخضراء وهذا العطر الانثوي الجذاب الذي كانت تتعطر به ساحرات بابل الفاتنات قديما..

استنشقت من هذا العطر في نهم وكأنه خمر لذ للشاربين، كدت وقتها أن أفقد عقلي كله وأتوه في تلك الرائحة..

ومن بعيد جاءت تتلألأ كنجمة بارحت مكانها في السماوات، امرأة تشع نورا أو هكذا خيل لي، ترتدي زيا حريريا ناصع البياض تتلاعب به الرياح فتجعلها أجمل من بلقيس نفسها..

أدركت وقتها ان رائحة هذا العطر لا يمكن أن يكون له مصدرا سواها، تلك الحورية التي سقطت من الجنة حتما، اقتربت مني ولازالت ملتفة بهذا الزي الذي يغطي كل شيء فيها تقريبا..



ومن مسافة عشرة أمتار تقريبا تحدثت بصوت أشد عزوبة من رائحة عطرها:

- مرحبا

تلعثمت مرتين على الأقل وانا أخشى أن أرمش بعيني حتى لا أفقد رؤيتها لحظة قبل أن أجيب بصوت خرج منازعا:

- مرحبا 

- هل تنتظر عمار

- لا أعرف ؟؟

- ألست أنت ممن سيحضر حفل الشواء

فكرت سريعا وقلت ان عمار هذا ربما يكون صديق صديقي الذي سيأتي بالسيارة بعد قليل.. يا للحظ الحسن هل تلك الحوراء ستكون معنا في هذا الحفل، أفكر جديا في قتل عمار واختطافها.. أجبتها بصوت متحشرج:

- نعم أنا أنتظره

- حسنا تعال

- إلى أين ؟؟

- انه ينتظرنا بسيارته خلف هذا الجبل


وأشارت الى الجبل البعيد، وكمن تخدرت كل ذرة في كيانه تتبعتها، تتبعتها وعيناي شاخصة تجاهها وهي تخطو فوق الرمال فلا تترك فيها أثرا..

و


هذا العطر الذي ملأ المكان من حولي فجعلني أتوه في بحر من اللذة المحرمة, أتخيل نفسي وقد تزوجت هذا الملاك وأصبحت لي وحدي, شعرت بحقد بالغ تجاه هذا العمار لأنه يمتلك صديقة مثل تلك..


لحظات وبدأت أرى أثار أقدام على الرمال من حولي، أثار واضحة ظاهرة للعيان، أدركت انه ربما سبقنا أحد الى السيارة للذهاب، وقبل أن أغرق في خيالاتي ثانية سمعت صوت اصطكاك أسنان غريب، نظرت من حولي لأحاول أن اتبين ماهية الصوت ولكن الظلام الشديد منع هذا، الرؤية صعبة بحق فهذا القمر قد غاب عن السماء ولم تتبقى سوى بعض النجوم التي فقدت بريقها وتنازع كي تبقى مضيئة..


ولكن الصوت أصبح مسموعا أكثر، توقفت ورحت التفت من حولي لتتوقف الفتاة من أمامي وتلتفت لي متسائلة:

- لماذا توقفت 

- هناك صوت غري.

وتوقفت الكلمات على لساني حينما كشفت عن وجهها، وأدركت وقتها لما قد غاب القمر عن السماء، فما غاب الا ليسكن وجهها فيضيئه ويجعله بمثل هذا البهاء، اتجهت ناحيتي فظهرت ملامحها أكثر وأكثر..


شفاه وردية وخدين متوردين تشع بهما الحمرة وشعر متموج أسود بلون الليل واعين صفراء عجيبة كأعين القطط نفسها..

سرحت في ملامحها ولكن الصوت كان قد ارتفع كثيرا، والتفت مرة ثانية ناظرا الى مصدر الصوت، وانتفض جسدي كله وصرخت صرخة عاتية، هناك فتاة ترقد على بطنها، فتاة تشبهها بنفس ملابسها وهيئتها ولكنها تلتهم جثة، نعم تلتهم جثة أحدهم وهذا الصوت لم يكن سوى صوت مضغها لجسده..


ونظرت في فزع لتلك التي تتجه ناحيتي، وكشفت عن قدميها التي تحولت الى أرجل حمار، واتسعت عينيها لتحتل نصف وجهها تقريبا، وأصبحت أنا في موقف لا أحسد عليه خاصة ان ذراعيها كانا يتشكلان على هيئة أداة حادة تشبه المنجل..


وقبل أن أتحرك هجمت في شراسة وضربت بذراعها الحديدي الحاد على وجهي، رفعت يدي لأحتمي فاخترق المنجل ذراعي فصرخت صرخة فزعة، متألمة خاصة مع نزيف الدم منها، وبكل عنف نزعت ذراعها الحديدي من ذراعي ورفعته لتضرب من جديد، وبكل ما أملك من رغبة في الحياة ضربت عينيها بإصبعي فصرخت صرخة عاتية وتراجعت الى الخلف، ولم أكن لأضيع ثانية واحدة، ركضت بذراع ينزف مبتعدا وأنا لا أتوقف عن الصراخ واللهاث، أنازع قدماي كي لا تفقد قوتها فيتهاوى جسدي أرضا وأكون طعاما لتلك المخلوقة البشعة..

ولكني سمعت صوت خطواتها من خلفي، وأدركت انني ميت لا محالة، إيقاع الخطوات كان سريعا، سريعا لأدرك انها سوف تدركني خلال ثوان معدودة..


ولمحت تلك التبة الرملية واختبأت خلفها، وراحت هي تزوم كحيوان مفترس وهي تبحث عني، ورحت أرتجف وأناجي ربي كي ينجيني من هذا المخلوق..

واشتعل عقلي وقتها، اشتعل لأتذكر مقال قرأته منذ أيام عن أم الدويس..


هذا المخلوق الذي يسكن البادية ويتشكل على هيئة امرأة جميلة ليستدرج الرجال ويقتلهم، تذكرت وهبطت دموعي من الندم، ليتني تذكرت منذ البداية وهربت..

ولكن مهلا مهلا.. لقد قرأت انها تهرب حينما ترى النساء، ولكن من أين تأتي النسوة في تلك الصحراء، واقتربت صوت خطواتها من التبة, ولم أجد سوى فكرة واحدة, فكرة قد تكون سببا في نجاتي..


نزعت هذا الوشاح من حول عنقي ولففته سريعا حول رأسي ثم حول وجهي كالنقاب، وفي تلك اللحظة وجدتني، وسقطت أنا أرضا ورحت ازحف متراجعا على الأرض، توقفت مكانها وراحت تتأملني في ثبات مخيف، وبكل رغبة لي في الحياة تحدثت بصوت رقيق مقلدا الفتيات قائلا:

- ارحلي من هنا

وما إن أتممتها حتى ركضت مبتعدة عن المكان، حملت ذراعي المجروح وركضت مترنحا ناحية الطريق لأجد سيارة هناك تنتظر، كان بها صديقي واثنين أخرين ما إن رأوني حتى هبوا خائفين، حملوني سريعا ونقلوني الى أقرب مستشفى لأسقط أنا في غيبوبة تامة..


..................................

أم الدويس هي خرافة عن امرأة جميلة من الجن، يشاع أنها ذات جمال أخاذ ورائحة زكية وجميلة تلاحق الرجال في الليل وتجعلهم يفتتنون بجمالها، وما إن يفتتوا بها ويلاحقوها حتى تقتلهم وتأكلهم. ويشاع أنها تخاف النساء وتظهر فقط للرجال، وهي من القصص التي ظهرت لدى الأجداد في دول الخليج بشكل عام ودولة الإمارات بشكل خاص. ويقول منتقدو الخرافة أن هذه القصة اختلقت لإخافة الرجال من الافتتان بالنساء الغريبات أو لإخافتهم لإبعادهم عن عصيان الله والوقوع في الزنا،  ويقال ان ذراعيها على هيئة الدوس وهو شيء شبيه بالمنجل في اللهجة الخليجية.. 

......................................  


هل اعجبك الموضوع :

تعليقات

التنقل السريع